فصل: تفسير الآيات رقم (44- 46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏44‏)‏ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ‏(‏45‏)‏ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

الأمر‏:‏ طلب إيجاد الفعل، ويطلق على الشأن، والفعل منه‏:‏ أمر يأمر، على‏:‏ فعل يفعل، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، فتقول‏:‏ مر زيداً وإتمامه قليل، أومر زيداً، فإن تقدم الأمر واو أو فاء، فإثبات الهمزة أجود، وهو مما يتعدّى إلى مفعولين‏:‏ أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر‏.‏ ويجوز حذف ذلك الحرف، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازاً تحفظ ولا يقاس عليها‏.‏ البر‏:‏ الصلة، وأيضاً‏:‏ الطاعة‏.‏ قال الراجز‏:‏

لا همّ ربّ إن بكراً دونكا *** يبرك الناس ويفخر ونكا

والبر‏:‏ الفؤاد، وولد الثعلب والهرّ، وبرّ والده‏:‏ أجله وأعظمه‏.‏ يبره‏:‏ على وزن فعل يفعل، ورجل بارّ، وبرّ، وبرت يمينه، وبرّ حجه‏:‏ أجلها وجمع أنواعاً من الخير، والبر سعة المعروف والخير، ومنه‏:‏ البر والبريّة للسعة‏.‏ ويتناول كل خير، والإبرار‏:‏ الغلبة، قال الشاعر‏:‏

ويبرّون على الآبي المبر *** النسيان‏:‏ ضد الذكر، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم، ويطلق أيضاً على الترك، وضده الفعل، والفعل‏:‏ نسي ينسى على فعل يفعل، ويتعدّى لواحد، وقد يعلق نسي حملاً على علم، قال الشاعر‏:‏

ومن أنتم إنا نسينا من أنتم *** وريحكم من أي ريح الأعاصر

وفي البيت احتمال‏:‏ التلاوة‏:‏ القراءة، وسميت بها لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضاً في الذكر‏.‏ والتلو‏:‏ التبع، وناقة مثل‏:‏ يتبعها ولدها‏.‏ العقل‏:‏ الإدراك المانع من الخطأ، ومنه عقال البعير، يمنعه من التصرف، والمعقل‏:‏ مكان يمتنع فيه، والعقل‏:‏ الدّية لأن جنسها إبل تعقل في فناء الولي، أو لأنها تمنع من قتل الجاني، والعقل‏:‏ ثوب موشى، قال الشاعر‏:‏

عقلاً ورقماً تظل الطير تتبعه *** كأنه من دم الأجواف مدموم

والعقال‏:‏ زكاة العام، قال الشاعر‏:‏

سعى عقالاً فلم يترك لنا سبداً *** فكيف لو قد سعى عمرو عقالين

ورمل عقنقل‏:‏ متماسك عن الانهيار‏.‏ الصبر‏:‏ حبس النفس على المكروه، والفعل‏:‏ صبر يصبر على فعل يفعل، وأصله أن يتعدى لواحد‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فصبرت عارفة لذلك حرّة *** ترسو إذا نفس الجبان تطلع

وقد كثر حذف مفعوله حتى صار كأنه غير متعدّ‏.‏ الكبيرة‏:‏ من كبر يكبر، ويكون ذلك في الجرم وفي القدر، ويقال‏:‏ كبر عليّ كذا، أي شق، وكبر يكبر، فهو كبير من السنّ‏.‏ قال الشاعر‏:‏

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا *** إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم

الخشوع‏:‏ قريب من الخضوع، وأصله‏:‏ اللين والسهولة، وقيل‏:‏ الاستكانة والتذلل‏.‏ وقال الليث‏:‏ الخضوع في البدن، والخشوع في البدن والبصر والصوت، والخشعة‏:‏ الرّملة المتطامنة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «كانت الكعبة خشعة على الماء» الظنّ‏:‏ ترجيح أحد الجانبين، وهو الذي يعبر عنه النحويون بالشك، وقد يطلق على التيقن‏.‏

وفي كلا الاستعمالين يدخل على ما أصله المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو، خلافاً لأبي زيد السهيلي، إذ زعم أنها ليست من نواسخ الابتداء‏.‏ والظنّ أيضاً يستعمل بمعنى‏:‏ التهمة، فيتعدى إذ ذاك لواحد، قال الفراء‏:‏ الظنّ يقع بمعنى الكذب، والبصريون لا يعرفون ذلك‏.‏

‏{‏أتأمرون الناس بالبرّ‏}‏ الهمزة‏:‏ للاستفهام وضعاً، وشابها هنا التوبيخ والتقريع لأن المعنى‏:‏ الإنكار، وعليهم توبيخهم على أن يأمر الشخص بخير، ويترك نفسه ونظيره في النهي، قول أبي الأسود‏:‏

لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

وقول الآخر‏:‏

وابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإن انتهت عنه فأنت حكيم

فيقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخير وهو لا يأتيه، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله‏.‏ وفي تفسير البر هنا أقوال‏:‏ الثبات على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يتبعونه، أو اتباع التوراة وهم يخالفونها في جحدهم صفته‏.‏ وروي عن قتادة وابن جريج والسّدي‏:‏ أو على الصدقة ويبخلون، أو على الصدق وهم لا يصدّقون، أو خص أصحابهم على الصلاة والزكاة ولا يأتونهما‏.‏ وقال السلمي‏:‏ أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم قلوبكم خالية عن ظواهر رسومها‏؟‏ وقال القشيري‏:‏ أتحرّضون الناس على البدار وترضون بالتخلف‏؟‏ وقال‏:‏ أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنا‏؟‏ وألفاظاً من هذا المعنى‏.‏ وأتى بالمضارع في‏:‏ أتأمرون، وإن كان قد وقع ذلك منهم لأنه يفهم منه في الاستعمال في كثير من المواضع‏:‏ الديمومة وكثرة التلبس بالفعل، نحو قولهم‏:‏ زيد يعطي ويمنع، وعبر عن ترك فعلهم بالنسيان مبالغة في الترك، فكأنه لا يجري لهم على بال، وعلق النسيان بالأنفس توكيداً للمبالغة في الغفلة المفرطة‏.‏

‏{‏وتنسون‏}‏‏:‏ معطوف على تأمرون، والمنعي عليهم جمعهم بين هاتين الحالتين من أمر الناس بالبر الذي في فعله النجاة الأبدية، وترك فعله حتى صار نسياً منسياً بالنسبة إليهم‏.‏ ‏{‏أنفسكم‏}‏، والأنفس هنا‏:‏ ذواتهم، وقيل‏:‏ جماعتهم وأهل ملتهم، ثم قيد وقوع ذلك منهم بقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم تتلون الكتاب‏}‏‏:‏ أي أنكم مباشروا الكتاب وقارئوه، وعالمون بما انطوى عليه، فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم‏؟‏ وخالفتموه بالنسبة إلى أنفسكم‏؟‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتكتموا الحق وأنتم تعلمون‏}‏ والجملة حالية ولا يخفى ما في تصديرها بقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم‏}‏، من التبكيت لهم والتقريع والتوبيخ لأجل المخاطبة بخلافها لو كانت اسماً مفرداً‏.‏ والكتاب هنا‏:‏ التوراة والإنجيل، وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم، وهذا قول الجمهور‏.‏ وقيل‏:‏ الكتاب هنا القرآن، قالوا‏:‏ ويكون قد انصرف من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب المؤمنين، ويكون ذلك من تلوين الخطاب، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك‏}‏ وفي هذا القول بعد، إذ الظاهر أن هذا كله خطاب مع أهل الكتاب‏.‏

‏{‏أفلا تعقلون‏}‏‏:‏ مذهب سيبويه والنحويين‏:‏ أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل ‏{‏أو لم يسيروا‏}‏ أثم إذا ما وقع، لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام، قدمت على حرف العطف، وذلك بخلاف هل‏.‏

وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها، ولا تقديم ولا تأخير، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها، وكأنه رأى أن الحذف أولى من التقديم والتأخير‏.‏ وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل‏.‏ فعلى قول الجماعة يكون التقدير‏:‏ فألا تعقلون، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير‏:‏ أتعقلون فلا تعقلون، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعد حرف العطف، ونبههم بقوله‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏، على ن فيهم إدراكاً شريفاً يمنعهم من قبيح ما ارتكبوه من أمر غيرهم بالخير ونسيان أنفسهم عنه، وإن هذه حالة من سلب العقل، إذ العاقل ساع في تحصيل ما فيه نجاته وخلاصه أولاً، ثم يسعى بعد ذلك في خلاص غيره، إبدأ بنفسك ثم بمن تعول‏.‏ ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل لنفسه مصلحة، فكيف يحصلها لغيره‏؟‏ ألا ترى إلى قول الشاعر‏:‏

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه *** فليس على شيء سواه بخزان

فإذا صدر من الإنسان تحصيل المصلحة لغيره، ومنع ذلك لنفسه، كان ذلك خارجاً عن أفعال العقلاء، خصوصاً في الأمور التي يرجى بسلوكها النجاة من عذاب الله، والفوز بالنعيم السرمدي‏.‏ وقد فسروا قوله‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ بأقوال‏:‏ أفلا تعقلون‏:‏ أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية بكم، أو أفلا تفهمون قبح ما تأتون من معصية ربكم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به، أو أفلا تنتهون، لأن العقل ينهى عن القبيح، أو أفلا ترجعون، لأن العقل يراد إلى الأحسن، أو أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه، أو إن وبال ذلك عليكم راجع، أو أفلا تمتنعون من المعاصي، أو أفلا تعقلون، إذ ليس في قضية العقل أن تأمر بالمعروف ولا تأتيه، أو أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقل، لأن العقول تأباه وتدفعه‏.‏ وشبيه بهذه الآية ‏{‏لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ الآية‏.‏ والمقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏:‏ الإرشاد إلى المنفعة والتحذير عن المفسدة، وذلك معلوم بشواهد العقل، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل، ويصير ذلك الوعظ سبباً للرغبة في المعصية، لأنه يقال‏:‏ لولا اطلاع الواعظ على أن لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية، فتكون النفس نافرة عن قبول وعظ من لم يتعظ، وأنشدوا‏:‏

مواعظ الواعظ لن تقبلا *** حتى يعيها قلبه أولاً

وقال عليّ كرم الله وجهه‏:‏ قصم ظهري رجلان‏:‏ عالم متهتك، وجاهل متنسك‏.‏ ولا دليل في الآية لمن استدل بها على أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏، ولا للمعتزلة في أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى، قالوا‏:‏ التوبيخ لا يحسن إلا إذا كانوا فاعلي أفعالهم، وهذه مسألة مشكلة يبحث فيها في علم الكلام‏.‏ وهذا الإنكار والتوبيخ والتقريع، وإن كان خطاباً لبني إسرائيل، فهو عام من حيث المعنى‏.‏ وعن محمد بن واسع‏:‏ بلغني أن ناساً من أهل الجنة أطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم‏:‏ قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة، قالوا‏:‏ كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها‏.‏

‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏‏:‏ تقدم ذكر معاني استفعل عند ذكر المادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإياك نستعين‏}‏ وأن من تلك المعاني الطلب، وأن استعان معناه طلب المعونة، وظاهر الصبر أنه يراد به ما يقع عليه في اللغة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الصبر‏:‏ الصوم، والصوم‏:‏ صبر، لأنه إمساك عن الطعام، وسمي رمضان‏:‏ شهر الصبر‏.‏ والصلاة‏:‏ هي المفروضة مع ما يتبعها من السنن والنوافل، قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ الصلاة الدعاء وقد أضمر، والصبر صلة تقيده، فقيل‏:‏ بالصبر على ما تكرهه نفوسكم من الطاعة والعمل، أو على أداء الفرائض، روي ذلك عن ابن عباس، أو عن المعاصي، أو على ترك الرياسة، أو على الطاعات وعن الشهوات، أو على حوائجكم إلى الله، أو على الصلاة‏.‏ ولما قدر هذا التقدير، أعني بالصبر على الصلاة، توهم بعض من تكلم على القرآن، أن الواو التي في الصلاة هنا بمعنى على، وإنما يريد قائل هذا‏:‏ أنهم أمروا بالاستعانة بالصبر على الصلاة وبالصلاة، لأن الواو بمعنى على، ويكون ينظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها‏}‏ وأمروا بالاستعانة بالصلاة، لأنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا، أو لما فيها من تمحيص الذنوب وترقيق القلوب، أو لما فيها من إزالة الهموم، ومنه الحديث‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» وقد روي أن ابن عباس نعى إليه قثم أخوه، فقام يصلي، وتلا‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏، أو لما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وكل هذه الوجوه ذكروها‏.‏ وقدم الصبر على الصلاة، قيل‏:‏ لأن تأثير الصبر في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي، والنفي مقدم على الإثبات، ويظهر أنه قدم الاستعانة به على الاستعانة بالصلاة، لأنه سبق ذكر تكاليف عظيمة شاق فراقها على من ألفها واعتادها من ذكر ما نسوه والإيفاء بما أخلفوه والإيمان بكتاب متجدد وترك أخذهم الرشا على آيات الله وتركهم إلباس الحق بالباطل وكتم الحق الذي لهم بذلك الرياسة في الدنيا والاستتباع لعوامهم وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهذه أمور عظيمة، فكانت البداءة بالصبر لذلك‏.‏

ولما كان عمود الإسلام هو الصلاة، وبها يتميز المسلم من الشرك، أتبع الصبر بها، إذ يحصل بها الاشتغال عن الدنيا، وبالتلاوة فيها الوقوف على ما تضمنه كتاب الله من الوعد والوعيد، والمواعظ والآداب، ومصير الخلق إلى دار الجزاء، فيرغب المشتغل بها في الآخرة، ويرغب عن الدنيا‏.‏ وناهيك من عبادة تتكرر على الإنسان في اليوم والليل خمس مرات، يناجي فيها ربه ويستغفر ذنبه‏.‏ وبهذا الذي ذكرناه تظهر الحكمة في أن أمروا بالاستعانة بالصبر والصلاة‏.‏ ويبعد دعوى من قال‏:‏ إنه خطاب للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ لأن من ينكره لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة‏.‏ قال‏:‏ ولا يبعد أن يكون الخطاب أولاً لبني إسرائيل، ثم يقع بعد الخطاب للمؤمنين، والذي يظهر أن ذلك كله خطاب لبني إسرائيل، لأن صرف الخطاب إلى غيرهم لغير موجب، ثم يخرج عن نظم الفصاحة‏.‏

‏{‏وإنها لكبيرة‏}‏‏:‏ الضمير عائد على الصلاة‏.‏ هذا ظاهر الكلام، وهو القاعدة في علم العربية‏:‏ أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل، وقيل‏:‏ يعود على الاستعانة، وهو المصدر المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏واستعينوا‏}‏، فيكون مثل ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ أي العدل أقرب، قاله البجلي‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه، قاله الأخفش‏.‏ وقيل‏:‏ على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الكعبة، لأن الأمر بالصلاة إليها‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها، من قوله‏:‏ ‏{‏اذكروا نعمتي‏}‏ إلى ‏{‏واستيعنوا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى على التثنية، واكتفى بعوده على أحدهما، فكأنه قال‏:‏ وإنهما كقوله‏:‏ ‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها‏}‏ في بعض التأويلات، وكقوله‏:‏ ‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏}‏، وقول الشاعر‏:‏

إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا *** فهذه سبعة أقوال فيما يعود الضمير عليه، وأظهرها ما بدأنا به أولاً، قال مؤرج في عود الضمير‏:‏ لأن الصلاة أهم وأغلب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انفضّوا إليها‏}‏، انتهى‏.‏ يعني أن ميل أولئك الذين انصرفوا في الجمعة إلى التجارة أهم وأغلب من ميلهم إلى اللهو، فلذلك كان عود الضمير عليها، وليس يعني أن الضميرين سواء في العود، لأن العطف بالواو يخالف العطف بأو، فالأصل في العطف بالواو مطابقة الضمير لما قبله في تثنية وجمع، وأما العطف بأو فلا يعود الضمير فيه إلا على أحد ما سبق‏.‏ ومعنى كبر الصلاة‏:‏ ثقلها وصعوبتها على من يفعلها مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كبر على المشركين ما تدعون إليه‏}‏ أي شق ذلك وثقل‏.‏

‏{‏إلا على الخاشعين‏}‏‏:‏ استثناء مفرغ، لأن المعنى‏:‏ وإنها لكبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين، وهم المتواضعون المستكينون، وإنما لم تشق على الخاشعين، لأنها منطوية على أوصاف هم متحلون بها لخشوعهم من القيام لله والركوع له والسجود له والرجاء لما عنده من الثواب‏.‏

فلما كان مآل أعمالهم إلى السعادة الأبدية، سهل عليهم ما صعب على غيرهم من المنافقين والمرائين بأعمالهم الذين لا يرجون لها نفعاً‏.‏ ويجوز في ‏{‏الذين‏}‏ الاتباع والقطع إلى الرفع أو النصب، وذلك صفة مدح، فالقطع أولى بها‏.‏ و‏{‏يظنون‏}‏ معناه‏:‏ يوقنون، قاله الجمهور، لأن من وصف بالخشوع لا يشك أنه ملاق ربه ويؤيده أن في مصحف عبد الله الذين يعلمون‏.‏ وقيل معناه‏:‏ الحسبان، فيحتاج إلى مصحح لهذا المعنى، وهو ما قدّروه من الحذف، وهو بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاء ربهم مذنبين، والصحيح هو الأول، ومثله ‏{‏إني ظننت أني ملاق حسابيه‏}‏ فظنوا أنهم مواقعوها‏.‏ وقال دريد‏:‏

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** سراتهم في السائريّ المسرّد

قال ابن عطية‏:‏ قد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس‏.‏ لا تقول العرب في رجل مرئيّ حاضر‏:‏ أظن هذا إنساناً، وإنما نجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس، انتهى‏.‏ والظن في كلا استعماليه من اليقين، أو الشك يتعدّى إلى اثنين، وتأتي بعد الظن أن الناصبة للفعل وأنّ الناصبة للاسم الرافعة للخبر فتقول‏:‏ ظننت أن تقوم، وظننت أنك تقوم‏.‏ وفي توجيه ذلك خلاف‏.‏ مذهب سيبويه‏:‏ أن أن وإن كل واحدة منهما مع ما دخلت عليه تسد مسد المفعولين، وذلك بجريان المسند والمسند إليه في هذا التركيب‏.‏ ومذهب أبي الحسن وأبي العباس‏:‏ أن أن وما عملت فيه في موضع مفعول واحد أول، والثاني مقدّر، فإذا قلت‏:‏ ظننت أن زيداً قائم، فتقديره‏:‏ ظننت قيام زيد كائناً أو واقعاً، والترجيح بين المذهبين يذكر في علم النحو‏.‏

‏{‏أنهم ملاقوا ربهم‏}‏، الملاقاة‏:‏ مفاعلة تكون من اثنين، لأن من لاقاك فقد لاقيته‏.‏ وقال المهدوي والماوردي وغيرهما‏:‏ الملاقاة هنا، وإن كانت صيغتها تقتضي التشريك، فهي من الواحد كقولهم‏:‏ طارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاك الله، قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف، لأن لقي يتضمن معنى لاقي، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف في المعنى لفاعل، انتهى كلامه‏.‏ ويحتاج إلى شرح، وذلك أنه ضعفه من حيث إن مادة لقي تتضمن معنى الملاقاة، بمعنى أن وضع هذا الفعل، سواء كان مجرداً أو على فاعل، معناه واحد من حيث إن من لقيك فقد لقيته، فهو لخصوص مادة يقتضي المشاركة، ويستحيل فيه أن يكون لواحد‏.‏ وهذا يدل على أن فاعل يكون لموافقة الفعل المجرد، وهذا أحد معاني فاعل، وهو أن يوافق الفعل المجرد‏.‏ وقول ابن عطية‏:‏ وليست كذلك الأفعال كلها كلام صحيح، أي ليست الأفعال مجردها بمعنى فاعل، بل فاعل فيها يدل على الاشتراك‏.‏

وقوله‏:‏ بل فعل خلاف فاعل يعني بل المجرد فيها يدل على الانفراد، وهو خلاف فاعل، لأنه يدل على الاشتراك، فضعف بأن يكون فاعل من اللقاء من باب‏:‏ عاقبت اللص، حيث إن مادة اللقاء تقتضي الاشتراك، سواء كان بصيغة المجرد أو بصيغة فاعل‏.‏ وهذه الإضافة غير محضة، لأنها إضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال‏.‏ وقد تقدم لنا الكلام على اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال، أو الاستقبال بالنسبة إلى أعماله في المفعول، وإضافته إليه، وإضافته إلى الرب، وإضافة الرب إليهم في غاية من الفصاحة، وذلك أن الرب على أي محامله حملته فيه دلالة على الإحسان لمن يربه، وتعطف بين لا يدل عليه غير لفظ الرب‏.‏ وقد اختلف المفسرون في معنى ملاقاة ربهم، فحمله بعضهم على ظاهره من غير حذف ولا كناية بأن اللقاء هو رؤية الباري تعالى، ولا لقاء أعظم ولا أشرف منها، وقد جاءت بها السنة المتواترة، وإلى اعتقادها ذهب أكثر المسلمين، وقيل ذلك على حذف مضاف، أي جزاء ربهم، لأن الملاقاة بالذوات مستحيلة في غير الرؤية، وقيل ذلك كناية عن انقضاء أجلهم كما يقال لمن مات قد لقي الله، ومنه قول الشاعر‏:‏

غداً نلقى الأحبة *** محمداً وصحبه

وكنى بالملاقاة عن الموت، لأن ملاقاة الله متسبب عن الموت، فهو من إطلاق المسبب، والمراد منه السبب، وذلك أن من كان يظن الموت في كل لحظة لا يفارق قلبه الخشوع، وقيل ذلك على حذف مضاف أخص من الجزاء، وهو الثواب، أي ثواب ربهم‏.‏ فعلى هذا القول، والقول الأول، يكون الظن على بابه من كونه يراد به الترجيح، وعلى تقدير الجزاء، أو كون الملاقاة يراد بها انقضاء الأجل، يكون الظن يراد به التيقن‏.‏ وقد نازعت المعتزلة في كون لفظ اللقاء لا يراد به الرؤية ولا يفيدها‏.‏ ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه‏}‏ والمنافق لا يرى ربه ‏{‏واعلموا أنكم ملاقوه‏}‏ ويتناول الكافر والمؤمن‏؟‏ وفي الحديث‏:‏ «لقي الله وهو عليه غضبان» إلى غير ذلك مما ذكروه‏.‏ وقد تكلم على ذلك أصحابنا‏.‏ ومسألة الرؤية يتكلم عليها في أصول الدين‏.‏

‏{‏وأنهم إليه راجعون‏}‏‏:‏ اختلف في الضمير في إليه على من يعود، فظاهر الكلام والتركيب الفصيح أنه يعود إلى الرب، وأن المعنى‏:‏ وأنهم إلى ربهم راجعون، وهو أقرب ملفوظ به‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على اللقاء الذي يتضمنه ملاقو ربهم‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الموت‏.‏ وقيل‏:‏ على الإعادة، وكلاهما يدل عليه ملاقوا‏.‏ وقد تقدم شرح الرجوع، فأغنى عن إعادته هنا‏.‏ وقيل‏:‏ بالقول الأول، وهو أن الضمير يعود على الرب، فلا يتحقق الرجوع، فيحتاج في تحققه إلى حذف مضاف، التقدير‏:‏ إلى أمر ربهم راجعون‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى بالرجوع‏:‏ الموت‏.‏ وقيل‏:‏ راجعون بالإعادة في الآخرة، وهو قول أبي العالية‏.‏ وقيل‏:‏ راجعون إلى أن لا يملك أحدهم ضراً ولا نفعاً لغيره، كما كانوا في بدء الخلق‏.‏ وقيل‏:‏ راجعون، فيجزيهم بأعمالهم، وليس في قوله‏:‏ وأنهم إليه راجعون دلالة للمجسمة والتناسخية على كون الأرواح قديمة، وإنما كانت موجودة في عالم الروحانيات‏.‏ قالوا‏:‏ لأن الرجوع إلى الشيء المسبوق بالكون عنده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

الفضل‏:‏ الزيادة، واستعماله في الخير، وفعله فعل يفعل، وأصله أن يتعدى بحرف الجر، وهو على ثم بحذف على، على حد قول الشاعر، وقد جمع بين الوجهين‏:‏

وجدنا نهشلاً فضلت فقيما *** كفضل ابن المخاض على الفصيل

وأما في الفضلة من الشيء، وهي البقية، فيقال‏:‏ فضل يفضل، كالذي قدمناه، وفضل يفضل، نحو‏:‏ سمع يسمع، وفضل يفضل، بكسرها من الماضي، وضمها من المضارع، وقد أولع قوم من النحويين بإجازة فتح ضاد فضلت في البيت وكسرها، والصواب الفتح‏.‏ الجزاء‏:‏ القضاء عن المفضل والمكافأة، قال الراجز‏:‏

يجزيه رب العرش عني إذ جزى *** جنات عدن في العلاليّ العلا

والإجزاء‏:‏ الإغناء‏.‏ قبول الشيء‏:‏ التوجه إليه، والفعل قبل يقبل، والقبل‏:‏ ما واجهك، قال القطامي‏:‏

فقلت للركب لما أن علا بهم *** من عن يمين الحبيا نظرة قبل

الشفاعة‏:‏ ضم غيره إلى وسيلته، والشفعة‏:‏ ضم الملك، الشفع‏:‏ الزوج، والشفاعة منه، لأن الشفاعة والمشفوع له‏:‏ شفع، وقال الأحوص‏:‏

كان من لامني لأصرمها *** كانوا لليلى بلومهم شفعوا

وناقة شفوع‏:‏ خلفها ولد‏.‏ وقيل‏:‏ خلفها ولد، وفي بطنها ولد‏.‏ الأخذ‏:‏ ضد الترك، والأخذ‏:‏ القبض والإمساك، ومنه قيل للأسير‏:‏ أخيذ، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، وقلّ الإتمام‏.‏ العدل‏:‏ الفداء، والعدل‏:‏ ما يساويه قيمة وقدراً، وإن لم يكن من جنسه، وبكسر العين‏:‏ المساوي في الجنس والجرم‏.‏ ومن العرب من يكسر العين من معنى الفدية، وواحد الأعدال بالكسر لا غير، والعدل‏:‏ المقبول القول من الناس، وحكي فيه أيضاً كسر العين‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ العدل‏:‏ الكفيل والرشوة، قال الشاعر‏:‏

لا يقبل الصرف فيها نهاب العدلا *** النصر‏:‏ العون، أرض منصورة‏:‏ ممدودة بالمطر، قال الشاعر‏:‏

أبوك الذي أجدى علي بنصره *** وأمسك عني بعده كل قاتل

وقال الآخر‏:‏

إذا ودّع الشهر الحرام فودعي *** بلاد تميم وانصري أرض عامر

والنصر‏:‏ العطاء، والانتصار‏:‏ الانتقام‏.‏ النجاة‏:‏ التنجية من الهلكة بعد الوقوع فيها، والأصل‏:‏ الإلقاء بنجوة، قال الشاعر‏:‏

ألم تر للنعمان كان بنجوة *** من الشر لو أن امرأ كان ناجيا

الآل‏:‏ قيل بمعنى الأهل، وزعم أن ألفه بدل عن هاء، وأن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة، وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل‏:‏ ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة، والآل من يؤول من قرابة أو ولي أو مذهب، فألفه بدل من واو‏.‏ ولذلك قال يونس‏:‏ في تصغيره أويل، ونقله الكسائي نصاً عن العرب، وهذا اختيار أبي الحسن بن الباذش، ولم يذكر سيبويه في باب البدل أن الهاء تبدل همزة، كما ذكر أن الهمزة تبدل هاء في‏:‏ هرقت، وهيا، وهرحت، وهياك‏.‏ وقد خصوا آلاً بالإضافة إلى العلم ذي الخطر ممن يعلم غالباً، فلا يقال‏:‏ آل الإسكاف والحجام، قال الشاعر‏:‏

نحن آل اللَّه في بلدتنا *** لم نزل آلا على عهد ارم

قال الأخفش‏:‏ لا يضاف آل إلا إلى الرئيس الأعظم، نحو‏:‏ آل محمد صلى الله عليه وسلم، وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة، قيل‏:‏ وفيه نظر، لأنه قد سمع عن أهل اللغة في البلدان فقالوا‏:‏ آل المدينة، وآل البصرة‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ لا يجوز أن يقال‏:‏ فلان من آل البصرة، ولا من آل الكوفة، بل يقال‏:‏ من أهل البصرة، ومن أهل الكوفة، انتهى قوله‏.‏ وقد سمع إضافته إلى اسم الجنس وإلى الضمير، قال الشاعر‏:‏

وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك *** وقال هدبة‏:‏

أنا الفارس الحامي حقيقة والدي *** وآلي كما تحمي حقيقة آلكا

وقد اختلف في اقتباس جواز إضافته إلى المضمر، فمنع من ذلك الكسائي، وأبو جعفر النحاس، وأبو بكر الزبيدي، وأجاز ذلك غيرهم‏.‏ وجمع بالواو والنون رفعاً وبالياء والنون جراً ونصباً، كما جمع أهل فقالوا‏:‏ آلون‏.‏ والآل‏:‏ السراب، يجمع على أفعال، قالوا‏:‏ أأوال، والآل‏:‏ عمود الخيمة، والآل‏:‏ الشخص، والآلة‏:‏ الحالة الشديدة‏.‏ فرعون‏:‏ لا ينصرف للعلمية والعجمة، وسيأتي الكلام عليه‏.‏ سامه‏:‏ كلفه العمل الشاق، قال الشاعر‏:‏

إذا ما الملك سام الناس خسفا *** أبينا أن نقر الخسف فينا

وقيل معناه‏:‏ يعلمونكم من السيماء، وهي العلامة، ومنه‏:‏ تسويم الخيل‏.‏ وقيل‏:‏ يطالبونكم من مساومة البيع‏.‏ وقيل‏:‏ يرسلون عليكم من إرسال الإبل للرّعي، وقال أبو عبيدة‏:‏ يولونكم، يقال سامه خطة خسف‏:‏ أي أولاه إياها‏.‏ السوء‏:‏ مصدر أساء، يقال‏:‏ ساء يسوء، وهو متعد، وأساء الرجل‏:‏ أي صار ذا سوء، قال الشاعر‏:‏

لئن ساءني أن نلتني بمساءة *** لقد سرّني أني خطرت ببالك

ومعنى ساءه‏:‏ أحزنه، هذا أصله، ثم يستعمل في كل ما يستقبح، ويقال‏:‏ أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل‏:‏ يراد قبحهما‏.‏ الذبح‏:‏ أصله الشق، قال الشاعر‏:‏

كأن بين فكها والفك *** فأرة مسك ذبحت في سك

وقال‏:‏

كأنما الصاب في عينيك مذبوح *** والذبحة‏:‏ داء في الحلق، يقال منه‏:‏ ذبحه يذبحه ذبحاً، والذبح‏:‏ المذبوح‏.‏ الاستحياء‏:‏ هنا الإبقاء حياً، واستفعل فيه بمعنى أفعل‏:‏ استحياه وأحياه بمعنى واحد، نحو قولهم‏:‏ أبل واستبل، أو طلب الحياء، وهو الفرج، فيكون استفعل هنا للطلب، نحو‏:‏ استغفر، أي تطلب الغفران‏.‏ وقد تقدم الكلام على استحيا من الحياء في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً‏}‏ النساء‏:‏ اسم يقع للصغار والكبار، وهو جمع تكسير لنسوة، ونسوة على وزن فعلة، وهو جمع قلة، خلافاً لابن السرّاج، إذ زعم أن فعلة اسم جمع لا جمع تكسير، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه‏.‏ والواحدة‏:‏ امرأة‏.‏ البلاء‏:‏ الاختبار، بلاه يبلوه بلاء‏:‏ اختبره، ثم صار يطلق على المكروه والشدة، يقال‏:‏ أصاب فلاناً بلاء‏:‏ أي شدة، وهو راجع لمعنى البلى، كأن المبتلى يؤول حاله إلى البلى، وهو الهلاك والفناء‏.‏

ويقال‏:‏ أبلاه بالنعمة، وبلاه بالشدة‏.‏ وقد يدخل أحدهما على الآخر فيقال‏:‏ بلاه بالخير، وأبلاه بالشر، قال الشاعر‏:‏

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم *** فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

فاستعملهما بمعنى واحد، ويبنى منه افتعل فيقال‏:‏ ابتلى‏.‏

‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم‏}‏‏:‏ تقدم الكلام في شرح هذا، وأعيد نداؤهم ثانياً على طريق التوكيد، ولينبهوا لسماع ما يرد عليهم من تعداد النعم التي أنعم الله بها عليهم، وتفصيلها نعمة نعمة، فالنداء الأول للتنبيه على طاعة المنعم، والنداء الثاني للتنبيه على شكر النعم‏.‏ ‏{‏وأني فضلتكم‏}‏‏:‏ ثم عطف التفضيل على النعمة، وهو من عطف الخاص على العام لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، وهو ما انفردت به الواو دون سائر حروف العطف، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يذكر لنا هذا النحو من العطف، وأنه يسمى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر على سبيل التفضيل، وقال الشاعر‏:‏

أكر عليهم دعلجاً ولبانه *** إذا ما اشتكى وقع القناة تحمحما

دعلج‏:‏ هنا اسم فرس، ولبانه‏:‏ صدره، ولأبي الفتح بن جني كلام في ذلك يكشف من سر الصناعة له‏.‏ ‏{‏على العالمين‏}‏‏:‏ أي عالمي زمانهم، قاله الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم، أو على كل العالمين، بما جعل فيهم من الأنبياء، وجعلهم ملوكاً وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، وذلك خاصة لهم دون غيرهم‏.‏ فيكون عاماً والنعمة مخصوصة‏.‏ قالوا‏:‏ ويدفع هذا القول‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة‏}‏ أو على الجم الغفير من الناس، يقال‏:‏ رأيت عالماً من الناس، يراد به الكثرة‏.‏ وعلى كل قول من هذه الأقوال الثلاثة لا يلزم منه التفضيل على هذه الأمة، لأن من قال بالعموم خص النعمة، ولا يلزم التفضيل على كل عالم بشيء خاص التفضيل من جميع الوجوه، ومن قال بالخصوص فوجه عدم التفضيل مطلقاً ظاهر‏.‏ وقال القشيري‏:‏ أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال‏:‏ ‏{‏وأني فضلتكم على العالمين‏}‏، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال‏:‏ ‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا‏}‏ فشتان بين من مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه‏.‏ فالأول يقتضي الثناء، والثاني يقتضي الإعجاب، انتهى‏.‏ وآخره ملخص من كلامه‏.‏‏.‏

‏{‏واتقوا يوماً‏}‏ أمر بالاتقاء، وكأنهم لما أمروا بذكر النعم وتفضيلهم ناسب أن من أنعم عليه وفضل يكون محصلاً للتقوى‏.‏ فأمروا بالإدامة على التقوى، أو بتحصيل التقوى، إن عرض لهم خلل وانتصاب يوماً، أما على الظرف والمتقى محذوف تقديره‏:‏ اتقوا العذاب يوماً، وإما على المفعول به اتساعاً أو على حذف مضاف، أي عذاب يوم، أو هول يوم‏.‏ وقيل معناه‏:‏ جيئوا متقين، وكأنه على هذا التقدير لم يلحظ متعلق الاتقاء، فإذ ذاك ينتصب يوماً على الظرف‏.‏

قال القشيري‏:‏ العوام خوفهم بعذابه، فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً‏}‏، ‏{‏واتقوا النار‏}‏ والخواص خوفهم بصفاته، فقال‏:‏ ‏{‏وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله‏}‏ وما تكون في شأن الآية‏.‏ وخواص الخواص خوفهم بنفسه، فقال‏:‏ ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ وقرأ ابن السماك العدوي لا تجزي من أجزأ، أي أغني، وقيل جزا، واجزا، بمعنى واحد، وهذه الجملة صفة لليوم، والرابط محذوف، فيجوز أن يكون التقدير‏:‏ لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر، فاتصل الضمير بالفعل، ثم حذف الضمير، فيكون الحذف بتدريج أو عداه إلى الضمير أولاً اتساعاً‏.‏ وهذا اختيار أبي عليّ، وإياه نختار‏.‏ قال المهدوي‏:‏ والوجهان، يعني تقديره‏:‏ لا تجزي فيه ولا تجزيه جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ لا يكون المحذوف إلا لهاء، قال‏:‏ لا يجوز أن تقول‏:‏ هذا رجل قصدت، ولا رأيت رجلاً أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه، انتهى‏.‏ وحذف الضمير من الجملة الواقعة صفة جائز، ومنه قوله‏:‏

فما أدري أغيرهم تناء *** وطول العهد أم مال أصابوا

يريد‏:‏ أصابوه، وما ذهبوا إليه من تعيين الربط أنه فيه، أو الضمير هو الظاهر، وقد يجوز على رأي الكوفيين أن يكون ثم رابط، ولا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها يوم محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير‏:‏ واتقوا يوماً يوم لا تجزي، فحذف يوم لدلالة يوماً عليه، فيصير المحذوف في الإضافة نظير الملفوظ به في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يوم لا ينطقون‏}‏ ونظير يوم لا تملك، لا تحتاج الجملة إلى ضمير، ويكون إعراب ذلك المحذوف بدلاً، وهو بدل كل من كل، ومنه قول الشاعر‏:‏

رحم الله أعظما دفنوها *** بسجستان طلحة الطلحات

في رواية من خفض التقدير أعظم طلحة‏.‏ وقد قالت العرب‏:‏ يعجبني الإكرام عندك سعد، بنية‏:‏ يعجبني الإكرام إكرام سعد‏.‏ وحكى الكسائي عن العرب‏:‏ أطعمونا لحماً سميناً شاة ذبحوها، أي لحم شاة‏.‏ وحكى الفراء عن العرب‏:‏ أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة سنه، الدقيق عظمه، على تقديره‏:‏ لو تعلمون علم الكبيرة سنه، فحذف الثاني اعتماداً على الأول، ولم يجز البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف إليه على خفضه في‏:‏ يعجبني القيام زيد، ولا يبعد ترجيح حذف يوم لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي والفراء عن العرب‏.‏ ويحسن هذا التخريج كون المضاف إليه جملة، فلا يظهر فيها إعراب، فيتنافر مع إعراب ما قبله، فإذا جاز ذلك في نثرهم مع التنافر، فلأن يجوز مع عدم التنافر أولى‏.‏ ولم أر أحداً من المعربين والمفسرين خرجوا هذه الجملة هذا التخريج، بل هم مجمعون على أن الجملة صفة ليوم، ويلزم من ذلك حذف الرابط أيضاً من الجمل المعطوفة على ‏{‏لا تجزي‏}‏، أي ولا يقبل منها شفاعة فيه، ولا يؤخذ منها عدل فيه، ولا هم ينصرون فيه، وعلى ذلك التخريج لا يحتاج إلى إضمار هذه الرّوابط‏.‏

‏{‏نفس عن نفس شيئاً‏}‏ كلاهما نكرة في سياق النفي فتعم‏.‏ ومعنى التنكير‏:‏ أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس من الأنفس شيئاً من الأشياء، قال الزمخشري‏:‏ وفيه إقناط كلي قاطع من المطامع، وهذا على مذهبه في أن لا شفاعة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ التقدير عن نفس كافرة، فقيدها بالكفر، وفيه دلالة على أن النفس تجزي عن نفس مؤمنة، وذلك بمفهوم الصفة‏.‏ ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏ولا يقبل منها شفاعة‏}‏‏.‏ وقرأ أبو السرار الغنوي‏:‏ لا تجزي نسمة عن نسمة، وانتصاب شيئاً على أنه مفعول به، أي لا يقضي شيئاً، أي حقاً من الحقوق، ويجوز أن يكون انتصابه على المصدر، أي‏:‏ ولا تجزي شيئاً من الجزاء، قاله الأخفش، وفيه إشارة إلى القلة، كقولك‏:‏ ضربت شيئاً من الضرب‏.‏‏.‏

‏{‏ولا يقبل منها شفاعة‏}‏‏:‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ ولا تقبل بالتاء، وهو القياس والأكثر، ومن قرأ بالياء فهو أيضاً جاز فصيح لمجاز التأنيث، وحسنة أيضاً الفصل بين الفعل ومرفوعه‏.‏ وقرأ سفيان‏:‏ ولا يقبل بفتح الياء ونصب شفاعة على البناء للفاعل، وفي ذلك التفات وخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، لأن قبله‏:‏ ‏{‏اذكروا نعمتي‏}‏ و‏{‏إني فضلتكم‏}‏، وبناؤه للمفعول أبلغ لأنه في اللفظ أعم، وإن كان يعلم أن الذي لا يقبل هو الله تعالى‏.‏ والضمير في منها عائد على نفس المتأخرة لأنها أقرب مذكور، أي لا يقبل من النفس المستشفعة شفاعة شافع، ويجوز أن يعود الضمير على نفس الأولى، أي ولا يقبل من النفس التي لا تجزي عن نفس شيئاً شفاعة، هي بصدد أن لو شفعت لم يقبل منها، وقد يظهر ترجيح عودها إلى النفس الأولى، لأنها هي المحدث عنها في قوله‏:‏ ‏{‏لا تجزي نفس عن نفس‏}‏، والنفس الثانية هي مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏ولا يقبل منها شفاعة‏}‏ نفي القبول ووجود الشفاعة، ويجوز أن يكون من باب‏:‏

على لا حب لا يهتدى بمناره *** نفي القبول، والمقصود نفي الشفاعة، كأنه قيل‏:‏ لا شفاعة، فتقبل‏.‏ وقد اختلف المفسرون في فهم هذا على ستة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ أنه لفظ عام لمعنى خاص، والمراد‏:‏ الذين قالوا من بني إسرائيل نحن أبناء الله، وأبناء أنبيائه، وأنهم يشفعون لنا عند الله، فرد عليهم ذلك، وأويسوا منه لكفرهم، وعلى هذا تكون النفس الأولى مؤمنة، والثانية كافرة، والكافر لا تنفعه شفاعة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏}‏ الثاني‏:‏ معناه لا يجدون شفيعاً تقبل شفاعته، لعجز المشفوع فيه عنه، وهو قول الحسن‏.‏ الثالث‏:‏ معناه لا يجيب الشافع المشفوع فيه إلى الشفاعة، وإن كان لو شفع لشفع‏.‏ الرابع‏:‏ معناه حيث لم يأذن الله في الشفاعة للكفار، ولا بد من إذن من الله بتقدم الشافع بالشفاعة لقوله‏:‏

‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له‏}‏ ‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏ الخامس‏:‏ معناه ليس لها شفاعة، فيكون لها قبول، وقد تقدم هذا القول‏.‏ السادس‏:‏ أنه نفي عام، أي لا يقبل في غيرها، لا مؤمنة ولا كافرة، في مؤمنة ولا كافرة، قاله الزمخشري‏.‏

وأجمع أهل السنة أن شفاعة الأنبياء والصالحين تقبل في العصاة من المؤمنين، خلافاً للمعتزلة، قالوا‏:‏ الكبيرة تخلد صاحبها في النار، وأنكروا الشفاعة، وهم على ضربين‏:‏ طائفة أنكرت الشفاعة إنكاراً كلياً وقالوا‏:‏ لا تقبل شفاعة أحد في أحد، واستدلوا بظواهر آيات، وخص تلك الظواهر أصحابنا بالكفار لثبوت الأحاديث الصحيحة في الشفاعة‏.‏ وطائفة أنكرت الشفاعة في أهل الكبائر، قالوا‏:‏ وإنما تقبل في الصغائر‏.‏ وقال في المنتخب‏:‏ أجمعت الأمة على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم شفاعة في الآخرة، واختلفوا لمن تكون‏.‏ فذهبت المعتزلة إلى أنها للمستحقين الثواب، وتأثيرها في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه‏.‏ وقال أصحابنا‏:‏ تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين، إما بأن لا يدخلوا النار، وإما في أن يخرجوا منها بعد دخولها ويدخلون الجنة، واتفقوا على أنها ليست للكفار، ثم ذكر نحواً من ست أوراق في الاستدلال للطائفتين، ورد بعضهم على بعض، يوقف عليها في ذلك الكتاب‏.‏

‏{‏ولا يؤخذ منها عدل‏}‏ العدل‏:‏ الفدية، قاله ابن عباس وأبو العالية، وسميت عدلاً لأن المفدى يعدل بها‏:‏ أي يساويها، أو البدل‏:‏ أي رجل مكان رجل‏.‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ أو حسنة مع الشرك ثلاثة أقوال‏.‏ ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏‏:‏ أتى بالضمير مجموعاً على معنى نفس، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏ وأتى به مذكراً لأنه أريد بالنفوس الأشخاص كقولهم‏:‏ ثلاثة أنفس، وجعل حرف النفي منسحباً على جملة اسمية ليكون الضمير مذكوراً مرتين، فيتأكد ذكر المنفي عنه النصر بذكره مرتين، وحسن الحمل على المعنى كون ذلك في آخر فاصلة، فيحصل بذلك التناسب في الفواصل، بخلاف أن لو جاء ولا تنصر، إذ كان يفوت التناسب‏.‏ ويحتمل رفع هذا الضمير وجهين من الإعراب‏.‏ أحدهما‏:‏ وهو المتبادر إلى أذهان المعربين أنه مبتدأ، والجملة بعده في موضع رفع على الخبر‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ وهو أغمض الوجهين وأغربهما أنه مفعول لم يسم فاعله، يفسر فعله الفعل الذي بعده، وتكون المسألة من باب الاشتغال، وذلك أن لا هي من الأدوات التي هي أولى بالفعل، كهمزة الاستفهام‏.‏ فكما يجوز في‏:‏ أزيد قائم، وأزيد يضرب، الرفع على الاشتغال، فكذلك هذا، ويقوي هذا الوجه أنه تقدم جملة فعلية‏.‏

والحكم في باب الاشتغال أنه إذا تقدمت جملة فعلية وعطف عليها بشرط العطف المذكور في ذلك الباب، فالأفصح الحمل على الفعل، ويجوز الابتداء كما ذكرنا أولاً، ويقوي عود الضمير إلى نفس الثانية بناء الفعل للمفعول، إذا لو كان عائداً على نفس الأولى لكان مبنياً للفاعل، كقوله‏:‏ لا تجزي‏.‏

ومن المفسرين من جعل الضمير في ولا هم عائداً على النفسين معاً، قال‏:‏ لأن التثنية جمع قالوا، وفي معنى النصر للمفسرين هنا ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أن معناه لا يمنعون من عذاب الله‏.‏ الثاني‏:‏ لا يجدون ناصراً ينصرهم ولا شافعاً يشفع لهم‏.‏ الثالث‏:‏ لا يعاونون على خلاصهم وفكاكهم من موبقات أعمالهم‏.‏ وثلاثة الأقوال هذه متقاربة المعنى، وجاء النفي لهذه الجمل هنا بلا المستعملة لنفي المستقبل في الأكثر، وكذلك هذه الأشياء الأربعة هي مستقبلة، لأن هذا اليوم لم يقع بعد‏.‏ وترتيب هذه الجمل في غاية الفصاحة، وهي على حسب الواقع في الدنيا، لأن المأخوذ بحق، إما أن يؤدى عنه الحق فيخلص، أو لا يقضى عنه فيشفع فيه، أو لا يشفع فيه فيفدى، أو لا يفدى فيتعاون بالإخوان على تخليصه‏.‏

فهذه مراتب يتلو بعضها بعضاً‏.‏ فلهذا، والله أعلم، جاءت مترتبة في الذكر هكذا‏.‏ ولما كان الأمر مختلفاً عند الناس في الشفاعة والفدية، فمن يغلب عليه حب الرياسة قدم الشفاعة على الفدية، ومن يغلب عليه حب المال قدم الفدية على الشفاعة، جاءت هذه الجمل هنا مقدماً فيها الشفاعة، وجاءت الفدية مقدمة على الشفاعة في جملة أخرى، ليدل ذلك على اختلاف الأمرين‏.‏ وبدئ هنا بالشفاعة، لأن ذلك أليق بعلوّ النفس، وجاء هنا بلفظ القبول، وهناك بلفظ النفع، إشارة إلى انتفاء أصل الشيء، وانتفاء ما يترتب عليه‏.‏ وبدئ هنا بالقبول، لأنه أصل للشيء المترتب عليه، فأعطى المتقدم ذكر المتقدم وجوداً، وأخر هناك النفع إعطاء للمتأخر ذكر المتأخر وجوداً‏.‏

‏{‏وإذ نجيناكم من آل فرعون‏}‏‏:‏ تقدم الكلام على إذ في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل‏}‏ ومن أجاز نصب إذ هناك مفعولاً به بإضمار اذكر أو ادّعى زيادتها، فقياس قوله هناك إجازته هنا، إذ لم يتقدم شيء تعطفه عليه إلا إن ادّعى مدّع أن إذ معطوفة على معمول اذكروا، كأنه قال‏:‏ اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم، ووقت تنجيتكم‏.‏ ويكون قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة الاعتراض التي هي‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً‏}‏‏.‏ وقد قدمنا أنا لا نختار أن يكون مفعولاً به بأذكر، لا ظاهرة ولا مقدرة، لأن ذلك تصرف فيها، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرف فيها إلا بإضافة اسم زمان إليها على ما قرر في النحو‏.‏ وإذا كان كذلك، فالذي نختاره أن ينتصب على الظرف، ويكون العامل فيه فعلاً محذوفاً يدل عليه ما قبله، تقديره‏:‏ وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون، وتقدير هذا الفعل أولى من كل ما قدمناه‏.‏ وخرج بقوله‏:‏ أنجيناكم إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه من ضمير المتكلم الذي لا يدل على تعظيم في قوله‏:‏ ‏{‏نعمتي التي أنعمت‏}‏، لأن هذا الفعل الذي هو الإنجاء من عدوّهم، هو من أعظم، أو أعظم النعم، فناسب الأعظم نسبته للمعظم نفسه‏.‏

وقرئ‏:‏ أنجيناكم، والهمزة للتعدية إلى المفعول، كالتضعيف في نجيناكم‏.‏ ونسبة هذه القراءة للنخعي‏.‏ وذكر بعضهم أنه قرأ‏:‏ أنجيتكم، فيكون الضمير موافقاً للضمير في نعمتي، والمعنى‏:‏ خلصتكم من آل فرعون، وجعل التخليص منهم لأنهم هم الذين كانوا يباشرونهم بهذه الأفعال السيئة، وإن كان أمرهم بذلك فرعون، وآل فرعون هنا أهل مصر، قاله مقاتل، أو أهل بيته خاصة، قاله أبو عبيد، أو أتباعه على ذنبه، قاله الزجاج، ومنه‏:‏ ‏{‏وأغرقنا آل فرعون‏}‏ وهم أتباعه على ذنبه، إذ لم يكن له أب، ولا بنت، ولا ابن، ولا عم، ولا أخ، ولا عصبة، وأدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏.‏ ‏"‏ وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من آلك‏؟‏ فقال‏:‏ «كل تقي» ‏"‏‏.‏ ويؤيد القول الثاني‏:‏ لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد‏.‏ والمراد بالآل هنا‏:‏ آل عقيل، وآل عباس، وآل الحارث بن عبد المطلب ومواليهم‏.‏ وورد أيضاً أن آله‏:‏ أزواجه وذريته، فدل على أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم آل عام وآل خاص‏.‏

وفرعون‏:‏ علم لمن ملك العمالقة، كما قيل‏:‏ قيصر لمن ملك الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وتبع لمن ملك اليمن‏.‏ وقال السهيلي‏:‏ هو اسم لكل من ملك القبط ومصر، وقد اشتق منه‏:‏ تفرعن الرجل، إذا تجبر وعتا، واسمه الوليد بن مصعب، قاله ابن إسحاق، وأكثر المفسرين، أو فنطوس، قاله مقاتل، أو مصعب بن الريان، حكاه ابن جرير، أو مغيث، ذكره بعض المفسرين، أو قابوس، وكنيته أبو مرة، وهو من بني عمليق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح‏.‏ وروي أنه من أهل اصطخر، ورد إلى مصر فصار بها ملكاً، لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية، قاله المسعودي‏.‏ وقال ابن وهب‏:‏ فرعون موسى هو فرعون يوسف، قالوا‏:‏ وهذا غير صحيح، لأن بين دخول يوسف مصر ودخول موسى أكثر من أربعمائة سنة‏.‏ والصحيح أنه غيره‏.‏ وقيل‏:‏ كان اسم فرعون يوسف الريان بن الوليد‏.‏‏.‏

‏{‏يسومونكم‏}‏‏:‏ يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال‏:‏ أي سائميكم، وهي حال من آل فرعون‏.‏ ‏{‏وسوء العذاب‏}‏‏:‏ أشقه وأصعبه وانتصابه، مبني على المراد بيسومونكم، وفيه للمفسرين أقوال‏:‏ السوم‏:‏ بمعنى التكليف أو الإبلاء، فيكون سوء العذاب على هذا القول مفعولاً ثانياً لسام، أي يكلفونكم، أو يولونكم سوء العذاب، أو بمعنى‏:‏ الإرسال، أو الإدامة، أو التصريف، أي‏:‏ يرسلونكم، أو يديمونكم، أو يصرفونكم في الأعمال الشاقة، أو بمعن الرفع، أي يرفعونكم إلى سوء العذاب، أو الوسم، أي‏:‏ يعلمونكم من العلامة، ومعناه‏:‏ أن الأعمال الشاقة لكثرة مزاولتها تصير عليهم علامة بتأثيرها في جلودهم وملابسهم، كالحدادة والنجارة، وغير ذلك يكون وسماً لهم، والتقدير‏:‏ يعلمونكم بسوء العذاب‏.‏

وضعف هذا القول من جهة الاشتقاق، لأنه لو كان كذلك لكان يسمونكم، وهذا التضعيف ضعيف لأنه لم يقل إنه مأخوذ من الوسم، وإنما معناه معنى الوسم، وهو من السيمياء، والسيماء مسوّمين في أحد تفاسيره بمعنى العلامة، وأصول هذا سين وواو وميم، وهي أصول يسومونكم، ويكون فعل المجرد بمعنى فعل، وهو مع الوسم مما اتفق معناه واختلفت أصوله‏:‏ كدمث، ودمثر، وسبط، وسبطر، أو بمعنى الطلب بالزيادة من السوم في البيع، أي‏:‏ يطلبونكم بازدياد الأعمال الشاقة‏.‏

وعلى هذه الأقوال غير القولين الأولين يكون ‏{‏سوء العذاب‏}‏ مفعولاً على إسقاط حرف الجر‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ ينتصب سوء العذاب نصب المصدر، ثم قدره سوماً شديداً‏.‏ وسوء العذاب‏:‏ الأعمال القذرة، قاله السدي، أو الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك، قاله بعضهم‏.‏ قال‏:‏ وكان قومه جنداً ملوكاً، أو الذبح، أو الاستحياء المشار إليهما، قاله الزجاج‏.‏ ورد ذلك بثبوت الواو في إبراهيم فقال‏:‏ ويذبحون، فدل على أنه عذبهم بالذبح وبغير الذبح‏.‏ وحكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً في الأعمال من البناء والتخريب والزراعة والخدمة، ومن لا يعمل فالجزية، فذوو القوّة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها، وطائفة ينقلون له الحجارة والطين ويبنون له القصور، وطائفة يضربون اللبن ويطبخون الآجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفة جعل عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم‏.‏ فمن غربت عليه الشمس قبل أن تؤديها غلت يده إلى عنقه شهراً‏.‏ والنساء يغزلن الكتان وينسجن‏.‏ وأصل نشأة بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمان ابنه يوسف بها على نبينا وعليهما السلام‏.‏

‏{‏يذبحون أبناءهم‏}‏‏:‏ قراءة الجمهور بالتشديد، وهو أولى لظهور تكرار الفعل باعتبار متعلقاته‏.‏ وقرأ الزهري وابن محيصن‏:‏ يذبحون خفيفاً من ذبح المجرد اكتفاء بمطلق الفعل، وللعلم بتكريره من متعلقاته‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ يقتلون بالتشديد مكان يذبحون، والذبح قتل، ويذبحون بدل من يسومونكم، بدل الفعل من الفعل، نحو‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يلق أثاماً يضاعف له العذاب‏}‏ وقول الشاعر‏:‏

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا

ويحتمل أن تكون مما حذف منه حرف العطف لثبوته في إبراهيم‏.‏ وقول من ذهب إلى أن الواو زائدة لحذفها هنا ضعيف‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسير لصفات العذاب، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم العذاب، غير الذبح، ويجوز أن يكون يذبحون‏:‏ في موضع الحال، من ضمير الرفع في‏:‏ يسومونكم، ويجوز أن يكون مستأنفاً‏.‏ وفي سبب الذبح والاستحياء أقوال وحكايات مختلفة، الله أعلم بصحتها، ومعظمها يدل على خوف فرعون من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل‏.‏

والأبناء‏:‏ الأطفال الذكور، يقال‏:‏ إنه قتل أربعين ألف صبي‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالأبناء‏:‏ الرّجال، وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، والأول أشهر‏.‏ والنساء هنا‏:‏ البنات، وسموا نساء باعتبار ما يؤلن إليه، أو بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهن، وقيل‏:‏ أراد‏:‏ النساء الكبار، والأول أشهر‏.‏

‏{‏ويستحيون نساءكم‏}‏‏:‏ وفسر الاستحياء بالوجهين اللذين ذكرناهما عند كلامنا على المفردات، وهو أن يكون المعنى‏:‏ يتركون بناتكم أحياء للخدمة، أو يفتشون أرحام نسائكم‏.‏ فعلى هذا القول ظاهره أن آل فرعون هم المباشرون لذلك، ذكر أنه وكل بكل عشر نساء رجلاً يحفظ من تحمل منهن‏.‏ وقيل‏:‏ وكل بذلك القوابل‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الاستحياء هنا من الحياء الذي هو ضد القحة، ومعناه أنهم يأتون النساء من الأعمال بما يلحقهم منه الحياء، وقدم الذبح على الاستحياء لأنه أصعب الأمور وأشقها، وهو أن يذبح ولد الرجل والمرأة اللذين كانا يرجوان النسل منه، والذبح أشق الآلام‏.‏ واستحياء النساء على القول الأول ليس بعذاب، لكنه يقع العذاب بسببه من جهة إبقائهن خدماً وإذاقتهن حسرة ذبح الأبناء، إن أريد بالنساء الكبار، أو ذبح الإخوة، إن أريد الأطفال، وتعلق العار بهن، إذ يبقين نساء بلا رجال فيصرن مفترشات لأعدائهن‏.‏ وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الآمر بالقتل بغير حق والمباشر له شريكان في القصاص، فإن الله تعالى أغرق فرعون، وهو الآمر، وآله وهم المباشرون‏.‏ وهذه مسألة يبحث فيها في علم الفقه، وفيها خلاف بين أهل العلم‏.‏

‏{‏وفي ذلك بلاء‏}‏‏:‏ هو إشارة إلى ذبح الأبناء واستحياء النساء، وهو المصدر الدال عليه الفعل نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولمن صبر وغفر إن ذلك‏}‏ وهو أقرب مذكور، فيكون المراد بالبلاء‏:‏ الشدة والمكروه‏.‏ وقيل‏:‏ يعود إلى معنى الجملة من قوله يسومونكم مع ما بعده، فيكون معنى البلاء كما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على التنيجة، وهو المصدر المفهوم من قوله‏:‏ نجيناكم، فيكون البلاء هنا‏:‏ النعمة ويكون ذلكم قد أشير به إلى أبعد مذكور، وهو أضعف من القول الذي قبله، والمتبادر إلى الذهن والأقرب في الذكر القول الأول‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏من ربكم عظيم‏}‏ دليل على أن الخير والشرّ من الله تعالى، بمعنى أنه خالقهما‏.‏ وفيه رد على النصارى ومن قال بقولهم‏:‏ إن الخير من الله والشرّ من الشيطان ووصفه بعظيم ظاهر، لأنه إن كان ذلكم إشارة إلى التنجية من آل فرعون، فلا يخفى ما في ذلك من عظم النعمة وكثرة المنة، وإن كان إشارة إلى ما بعد التنجي من السوم، أو الذبح، والاستحياء، فذلك ابتلاء عظيم شاق على النفوس، يقال إنه سخرهم فبنوا سبعة حوائط جائعة أكبادهم عارية أجسادهم، وذبح منهم أربعين ألف صبي‏.‏ فأي ابتلاء أعظم من هذا وكونه عظيماً هو بالنسبة للمخاطب والسامع، لا بالنسبة إلى الله تعالى، لأنه يستحيل عليه اتصافه بالاستعظام‏.‏

قال القشيري‏:‏ من صبر في الله على بلاء الله عوضه الله صحبة أوليائه‏.‏ هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضرّ من فرعون وقومه، فجعل منهم أنبياء، وجعل منهم ملوكاً، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، انتهى‏.‏ ولم تزل النعم تمحو آثار النقم، قال الشاعر‏:‏

نأسوا بأموالنا آثار رائدينا *** ولما تقدم الأمر بذكر النعم مجملة فيما سبق، أمرهم بذكرها ثانية مفصلة، فبدأ منها بالتفضيل، ثم أمرهم باتقاء يوم لا خلاص فيه، لا بقاض حق، ولا شفيع، ولا فدية، ولا نصر، لمن لم يذكر نعمه، ولم يمتثل أمره، ولم يجتنب نهيه، وكان الأمر بالاتقاء مهماً هنا، لأن من أخبر بأنه فضل على العالمين ربما استنام إلى هذا التفضيل، فأعلم أنه لا بد مع ذلك من تحصيل التقوى وعدم الاتكال على مجرد التفضيل، لأن من ابتدأك بسوابق نعمه، يجب عليك أن تتقي لواحق نقمة‏.‏ ثم ثنى بذكر الإنجاء الذي به كان سبب البقاء بعد شدة اللأواء‏.‏ ثم بعد ذلك ذكر تفاصيل النعماء مما نص عليه إلى قوله‏:‏ ‏{‏اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم‏}‏ فكان تعداد الآلاء مما يوجب جميل الذكر وجليل الثناء‏.‏ وسيأتي الكلام في ترتيب هذه النعم، نعمة نعمة، إن شاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏51‏)‏ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

الفرق‏:‏ الفصل، فرق بين كذا وكذا‏:‏ فصل، وفرق كذا‏:‏ فصل بعضه من بعض، ومنه‏:‏ الفرق في شعر الرأس، والفريق، والفرقان، والتفرق، والفرق، المفروق، كالطحن‏.‏ والفرق ضده‏:‏ الجمع، ونظائره‏:‏ الفصل، وضده‏:‏ الوصل، والشق والصدع‏:‏ وضدهما اللأم، والتمييز‏:‏ وضده الاختلاط‏.‏ وقيل‏:‏ يقال فرق في المعانى، وفرق في الأجسام، وليس بصحيح‏.‏ البحر‏:‏ مكان مطمئن من الأرض يجمع المياه، ويجمع في القلة على أبحر، وفي الكثرة على بحور وبحار، وأصله قيل‏:‏ الشق، وقيل‏:‏ السعة‏.‏ فمن الأول‏:‏ البحيرة، وهي التي شقت أذنها، ومن الثاني‏:‏ البحيرة، المدينة المتسعة، وفرس بحر‏:‏ واسع العدو، وتبحر في العلم‏:‏ أي اتسع، وقال‏:‏

انعق بضأنك في بقل تبحره *** من الأباطح وأحبسها بخلدان

وجاء استعماله في الماء الحلو والماء الملح، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج‏}‏ وجاء استعماله للملح، ويقال‏:‏ هو الأصل، فيه أنشد أحمد بن يحيى‏:‏

وقد عاد عذب الماء بحراً فزادني *** على مرض أن أبحر المشرب العذب

أي صار ملحاً‏.‏ الغرق‏:‏ معروف، والفعل منه فعل بكسر العين يفعل بالفتح، قال‏:‏

وتارات يجمّ فيغرق *** والتغريق، والتعويص، والترسيب، والتغييب، بمعنى واحد‏.‏ النظر‏:‏ تصويب المقلة إلى المرئيّ، ويطلق على الرؤية، وتعديته بإلى، ويعلق، وإن لم يكن من أفعال القلوب، فلينظر أيها أزكى طعاماً، ونظره وانتظره وانظره‏:‏ أخره، والنظرة‏:‏ التأخير‏.‏ وعد في الخير والشر، والوعد في الخير، وأوعد في الشر، والإيعاد والوعيد في الشر‏.‏ موسى‏:‏ اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية‏.‏ يقال‏:‏ هو مركب من مو‏:‏ وهو الماء، وشاو‏:‏ هو الشجر‏.‏ فلما عرّب أبدلوا شينه سيناً، وإذا كان أعجمياً فلا يدخله اشتقاق عربي‏.‏ وقد اختلفوا في اشتقاقه، فقال مكيّ‏:‏ موسى مفعل من أوسيت، وقال غيره‏:‏ هو مشتق من ماس يميس، ووزنه‏:‏ فعلى، فأبدلت الياء واواً الضمة ما قبلها، كما قالوا‏:‏ طوبى، وهي من ذوات الياء، لأنها من طاب يطيب‏.‏ وكون وزنه فعلى هو مذهب المعربين‏.‏ وقد نص سيبويه على أن وزن موسى مفعل، وذلك فيما لا ينصرف‏.‏ واحتج سيبويه في الأبنية على ذلك بأن زيادة الميم أولاً أكثر من زيادة الألف آخراً، واحتج الفارسي على كونه مفعلاً لا فعلى، بالإجماع على صرفه نكرة، ولو كان فعلى لم ينصرف نكرة لأن الألف كانت تكون للتأنيث، وألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة‏.‏ الأربعون‏:‏ ليس بجمع سلامة، بل هو من قبيل المفرد الذي هو اسم جمع، ومدلوله معروف، وقد أعرب إعراب الجمع المذكر السالم‏.‏

الليلة‏:‏ مدلولها معروف، وتكسر شاذاً على فعالى، فيقال‏:‏ الليالي، ونظيره‏:‏ الكيكة والكياكي، كأنه جمع ليلاه وكيكاه، وأهل والأهالي‏.‏ وقد شذوا في التصغير كما شذوا في التكسير، قالوا‏:‏ لييله‏.‏

الاتخاذ‏:‏ افتعال من الأخذ، وكان القياس أن لا تبدل الهمزة إلا ياء، فتقول‏:‏ إيتخذ كهمزة إيمان إذ أصله‏:‏ إإمان، وكقولهم‏:‏ ائتزر‏:‏ افتعل من الإزار، فمتى كانت فاء الكلمة واواً أو ياء، وبنيت افتعل منها، فاللغة الفصحى إبدالها تاء وإدغامها في تاء الافتعال، فتقول‏:‏ اتصل واتسر من الوصل واليسر، فإن كانت فاء الكلمة همزة، وبنيت افتعل، أبدلت تلك الهمزة ياء وأقررتها‏.‏ هذا هو القياس، وقد تبدل هذه الياء تاء فتدغم، قالوا‏:‏ إتمن، وأصله‏:‏ إئتمن‏.‏ وعلى هذا جاء‏:‏ اتخذ‏.‏ ومما علق بذهني من فوائد الشيخ الإمام بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر الحلبي، عرف بابن النحاس، رحمه الله، وهو كان المشتهر بعلم النحو في ديار مصر‏:‏ أن اتخذ مما أبدل فيه الواو تاء على اللغة الفصحى، لأن فيه لغة أنه يقال‏:‏ وخذ بالواو، فجاء هذا على الأصل في البدل، وإن كان مبنياً على اللغة القليلة، وهذا أحسن، لأنهم نصوا على أن اتمن لغة رديئة، وكان رحمه الله يغرب بنقل هذه اللغة‏.‏ وقد خرج الفارسي مسألة اتخذ على أن التاء الأولى أصلية، إذ قلت‏:‏ قالت العرب تخذ بكسر الخاء، بمعنى‏:‏ أخذ، قال‏:‏ تعالى‏:‏ ‏{‏لاتخذت عليه أجراً‏}‏ في قراءة من قرأ كذلك، وأنشد الفارسي، رحمه الله‏:‏

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها *** نسيفاً كأفحوص القطاة المطوّق

فعلى قوله‏:‏ التاء أصل، وبنيت منه افتعل، فقلت‏:‏ اتخذ، كما تقول‏:‏ اتبع، مبنياً من تبع، وقد نازع أبو القاسم الزجاجي في تخذ، فزعم أن أصله‏:‏ اتخذ، وحذف كما حذف اتقى، فقالوا‏:‏ تقى، واستدل على ذلك بقولهم‏:‏ تخذ بفتح التاء مخففة، كما قالوا‏:‏ يتقي ويتسع بحذف التاء التي هي بدل من فاء الكلمة‏.‏ ورد السيرافي هذا القول وقال‏:‏ لو كان محذوفاً منه ما كسرت الخاء، بل كانت تكون مفتوحة، كقاف تفي، وأما يتخذ فمحذوف مثل‏:‏ يتسع، حذف من المضارع دون الماضي، وتخذ بناء أصلي، انتهى‏.‏ وما ذهب إليه الفارسي والسيرافي من أنه بناء أصلي على حده هو الصحيح، بدليل ما حكاه أبو زيد وهو‏:‏ تخذ يتخذ تخذاً، قال الشاعر‏:‏

ولا تكثرن تخذ العشار فإنها *** تريد مباءات فسيحاً بناؤها

وذكر المهدوي في شرح الهداية‏:‏ أن الأصل واو مبدلة من همزة، ثم قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء، فصار في اتخذ أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ التاء الأولى أصل‏.‏ الثاني‏:‏ أنها بدل من واو أصلية‏.‏ الثالث‏:‏ أنها بدل من تاء أبدلت من همزة‏.‏ الرابع‏:‏ أنها بدل من واو أبدلت من همزة، واتخذ تارة يتعدى لواحد، وذلك نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذت بيتاً‏}‏ وتارة لاثنين نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏ بمعنى صير‏.‏ العجل‏:‏ معروف، وهو ولد البقرة الصغير الذكر‏.‏ بعد‏:‏ ظرف زمان، وأصله الوصف، كقبل، وحكمه حكمه في كونه يبنى على الضم إذا قطع عن الإضافة إلى معرفة، ويعرب بحركتين، فإذا قلت‏:‏ جئت بعد زيد، فالتقدير‏:‏ جئت زماناً بعد زمان مجيء زيد، ولا يحفظ جرّه إلا بمن وحدها‏.‏

عفا‏:‏ بمعنى كثر، فلا يتعدى حتى عفوا، وقالوا‏:‏ وبمعنى درس، فيكون لازماً متعدياً نحو‏:‏ عفت الديار، ونحو‏:‏ عفاها الريح، وعفا عن زيد‏:‏ لم يؤاخذه بجريمته، واعفوا عن اللحى، أي اتركوها ولا تأخذوا منها شيئاً، ورجل عفوّ، والجمع عفو على فعل بإسكان العين، وهو جميع شاذ، والعفاء‏:‏ الشعر الكثير، قال الشاعر‏:‏

عليه من عقيقته عفاء *** ويقال في الدعاء على الشخص‏:‏ عليه العفاء، قال‏:‏

على آثار من ذهب العفاء *** يريد الدروس، وتأتي عفا‏:‏ بمعنى سهل من قولهم‏:‏ خذ ما عفا وصفا، وأخذت عفوه‏:‏ أي ما سهل عليه، ‏{‏ماذا ينفقون قل العفو‏}‏ أي الفضل الذي يسهل إعطاؤه، ومنه‏:‏ خذ العفو، أي السهل على أحد الأقوال، والعافية‏:‏ الحالة السهلة السمحة‏.‏ الشكر‏:‏ الثناء على إسداء النعم، وفعلة‏:‏ شكر يشكرشكراً وشكوراً، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف جر، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاس عليها، وهو قسم برأسه، تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء، خلافاً لمن زعم استحالة ذلك‏.‏ وكان شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن شكر أصله أن يتعدى بحرف جر، ثم أسقط اتساعاً‏.‏ وقيل‏:‏ الشكر‏:‏ إظهار النعمة من قولهم‏:‏ شكرت الرمكة مهرها إذا أظهرته، والشكير‏:‏ صغار الورق يظهر من أثر الماء، قال الشاعر‏:‏

وبينا الفتى يهتز للعيش ناضراً *** كعسلوجة يهتز منها شكيرها

وأوّل الشيب، قال الراجز‏:‏

ألان ادلاج بك العتير *** والرأس إذ صار له شكير

وناقة شكور تذر أكثر مما رعت *** الفرقان‏:‏ مصدر فرق، وتقدّم الكلام في فرق‏.‏

‏{‏وإذا فرّقنا بكم البحر‏}‏‏:‏ معطوف على‏:‏ وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل في إذ تلك بواسطة الحرف‏.‏ وقرأ الزهري‏:‏ فرّقنا بالتشديد، ويفيد التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر مسلكاً على عدد أسباط بني إسرائيل‏.‏ ومن قرأ‏:‏ فرقنا مجرداً، اكتفى بالمطلق، وفهم التكثير من تعداد الأسباط‏.‏ بكم‏:‏ متعلق بفرّقنا، والباء معناها‏:‏ السبب، أي بسبب دخولكم، أو المصاحبة‏:‏ أي ملتبساً، كما قال‏:‏

تدوس بنا الجماجم والتريبا *** أي ملتبسة بنا، أو‏:‏ أي جعلناه فرقاً بكم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما، وهو قريب من معنى الاستعانة، أو معناها اللام، أي فرّقنا لكم البحر، أي لأجلكم، ومعناها راجع للسبب‏.‏ ويحتمل الفرق أن يكون عرضاً من ضفة إلى ضفة، ويحتمل أن يكون طولاً، ونقل كل‏:‏ وعلى هذا الثاني قالوا‏:‏ كان ذلك بقرب من موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة‏.‏ وذكر العامري‏:‏ أن موضع خروجهم من البحر كان قريباً من برية فلسطين، وهي كانت طريقهم‏.‏

البحر‏:‏ قيل هو بحر القلزم من بحار فارس، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ، وقيل‏:‏ بحر من بحار مصر يقال له أساف، ويعرف الآن ببحر القلزم، قيل‏:‏ وهو الصحيح، ولم يختلفوا في أن فرق البحر كان بعدد الأسباط، اثنى عشر مسلكاً‏.‏ واختلفوا في عدد المفروق بهم، وعدد آل فرعون، على أقوال يضاد بعضها بعضاً، وحكوا في كيفية خروج بني إسرائيل، وتعنتهم وهم في البحر مقتحمون، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، حكايات مطوّلة جداً لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها، فالله أعلم بالصحيح منها‏.‏

‏{‏فأنجيناكم‏}‏‏:‏ يعني من الغرق، ومن إدراك فرعون لكم واليوم الذي وقع فيه الفرق والنجاة والغرق كان يوم عاشوراء‏؟‏ واستطردوا إلى الكلام في يوم عاشوراء، وفي صومه، وهي مسألة تذكر في الفقه‏.‏ وبين قوله‏:‏ ‏{‏فرّقنا بكم البحر‏}‏، وبين قوله‏:‏ ‏{‏فأنجيناكم‏}‏ محذوف يدلّ عليه المعنى تقديره‏:‏ وإذ فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم‏.‏ ‏{‏وأغرقنا آل فرعون‏}‏ والهمزة في أغرقنا للتعدية، ويعدى أيضاً بالتضعيف‏.‏ ولم يذكر فرعون فيمن غرق، لأن وجوده معهم مستقرّ، فاكتفى بذكر الآل هنا، لأنهم هم الذين ذكروا في الآية قبل هذه، ونسب تلك الصفة القبيحة إليهم من سومهم بني إسرائيل العذاب، وذبحهم أبناءهم، واستحيائهم نساءهم، فناسب هذا إفرادهم بالغرق‏.‏ وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر، منها‏:‏ ‏{‏فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ‏}‏ ‏{‏حتى إذا أدركه الغرق‏}‏ ‏{‏فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم‏}‏ وناسب نجاتهم من فرعون بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين، نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح، بإلقائه وهو طفل في البحر، وخروجه منه سالماً‏.‏ ولكل أمّة نصيب من نبيها‏.‏ وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق، هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح، لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم، والغرق فيه إبطاء الموت، ولا دم خارج، وكان ما به الحياة ‏{‏وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ‏}‏ سبباً لإعدامهم من الوجود‏.‏ ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدّة، جعله الله تعالى نكالاً لمن ادّعى الربوبية، فقال‏:‏ ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ إذ على قدر الذنب يكون العقاب، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدّعى وتغييبه في قعر الماء‏.‏

‏{‏وأنتم تنظرون‏}‏‏:‏ جملة حالية، وهو من النظر‏:‏ بمعنى الإبصار‏.‏ والمعنى، والله أعلم‏:‏ أن هذه الخوارق العظيمية من فرق البحر بكم، وإنجائكم من الغرق، ومن أعدائكم، وإهلاك أعدائكم بالغرق، وقع وأنتم تعاينون ذلك وتشاهدونه، لم يصل ذلك إليكم بنقل، بل بالمشاهدة التي توجب العلم الضروري بأن ذلك خارق من عند الله تعالى على يد النبي الذي جاءكم‏.‏ وقيل‏:‏ وأنتم تنظرون إليهم لقرب بعض من بعض، وقيل‏:‏ إلى طفوهم على وجه الماء غرقى‏.‏ وقيل‏:‏ إليهم وقد لفظهم البحر وهم العدد الذي لا يكاد ينحصر، لم يترك البحر في جوفه منهم واحداً‏.‏

وقيل‏:‏ تنظرون أي بعضكم إلى بعض وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له‏:‏ أين أصحابنا‏؟‏ فقال‏:‏ سيروا، فإنهم على طريق مثل طريقكم، قالوا‏:‏ لا نرضى حتى نراهم، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان، فصار بها كوى، فتراءوا وتسامعوا كلام بعضهم بعضاً‏.‏ وهذه الأقوال الخمسة النظر فيها بمعنى الرؤية، وقيل‏:‏ النظر تجوز به عن القرب، أي وأنتم بالقرب منهم، أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم‏:‏ أنت مني بمرأى ومسمع، أي قريب بحيث أراك وأسمعك، قاله ابن الأنباري‏.‏ وقيل‏:‏ هو من نظر البصيرة والعقل، ومعناه‏:‏ وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت إليهم‏.‏ وقيل‏:‏ النظر هنا بمعنى العلم، لأن العلم يحصل عن النظر، فكنى به عنه، قاله الفراء، وهو معنى قول ابن عباس‏.‏

‏{‏وإذا واعدنا موسى أربعين ليلة‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ واعدنا، وقرأ أبو عمرو‏:‏ وعدنا بغير ألف هنا، وفي الأعراف وطه، ويحتمل واعدنا‏:‏ أن يكون بمعنى وعدنا، ويكون صدر من واحد، ويحتمل أن يكون من اثنين على أصل المفاعلة، فيكون الله قد وعد موسى الوحي، ويكون موسى وعد الله المجيء للميقات، أو يكون الوعد من الله وقبوله كان من موسى، وقبول الوعد يشبه الوعد‏.‏ قال القفال‏:‏ ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله بمعنى يعاهده‏.‏ وقيل‏:‏ وعد إذا كان عن غير طلب، وواعد إذا كان عن طلب‏.‏ وقد رجح أبو عبيد قراءة من قرأ‏:‏ وعدنا بغير ألف، وأنكر قراءة من قرأ‏:‏ واعدنا بالألف، وافقه على معنى ما قال أبو حاتم ومكي‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ المواعدة لا تكون إلا من البشر، وقال أبو حاتم‏:‏ أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين، كل واحد منهما يعد صاحبه، وقد مر تخريج واعد على تلك الوجوه السابقة، ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، لأن كلاً منهما متواتر، فهما في الصحة على حدّ سواء‏.‏ وأكثر القراء على القراءة بألف، وهي قراءة مجاهد، والأعرج، وابن كثير، ونافع، والأعمش، وحمزة، والكسائي‏.‏ موسى‏:‏ هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن‏.‏ وذكر الشريف أبو البركات محمد بن أسعد بن علي الحوّاني النسابة‏:‏ أن موسى على نبينا وعليه السلام هو‏:‏ موسى بن عمران بن قاهث، وتقدّم الكلام في لفظ موسى العلم‏.‏ وأما موسى الحديدة، التي يحلق بها الشعر، فهي مؤنثة عربية مشتقة من‏:‏ أسوت الشيء، إذا أصلحته، ووزنها مفعل، وأصلها الهمز، وقيل‏:‏ اشتقاقها من‏:‏ أوسيت إذا حلقت، وهذا الاشتقاق أشبه بها، ولا أصل للواو في الهمز على هذا‏.‏ ‏{‏أربعين ليلة‏}‏‏:‏ ذو الحجة وعشر من المحرّم، أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قاله أبو العالية وأكثر المفسرين، وقرأ علي وعيسى بن عمر‏:‏ بكسر باء أربعين شاذاً اتباعاً، ونصب أربعين على المفعول الثاني لواعدنا، على أنها هي الموعودة، أو على حذف مضاف التقديم تمام، أو انقضاء أربعين حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه، قاله الأخفش، فيكون مثل قوله‏:‏

فواعديه سر حتى مالك *** أو النقا بينهما أسهلا

أي إتيان سر حتى مالك، ولا يجوز نصب أربعين على الظرف لأنه ظرف معدود، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أجزائه، والمواعدة لم تقع كذلك‏.‏ وليلة‏:‏ منصوب على التمييز الجائي بعد تمام الاسم، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم العدد قبله شبه أربعين بضاربين، ولا يجوز تقديم هذا النوع من التمييز على اسم العدد بإجماع، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا ضرورة، نحو‏:‏

على أنني بعدما قد مضى *** ثلاثون للهجر حولاً كميلا

وعشرين منها أصبعاً من ورائنا *** ولا تعريف للتمييز، خلافاً لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة‏.‏ وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب‏:‏ ما فعلت العشرون الدرهم، وما جاء نحو‏:‏ هذا مما يدل على التعريف، وذلك مذكور في علم النحو‏.‏ وكان تفسير الأربعين بليلة دون يوم، لأن أوّل الشهر ليلة الهلال، ولهذا أرّخ بالليالي، واعتماد العرب على الأهلة، فصارت الأيام تبعاً لليالي، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل ‏{‏وآية لهم الليل نسلخ منه النهار‏}‏ أو دلالة على مواصلته الصوم ليلاً ونهاراً، لأنه لو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها‏.‏ وهذه المواعدة للتكلم، أو لإنزال التوراة‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وكان ذلك بعد أن جاوز البحر، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فخرج إلى الطور في سبعين رجلاً من خيار بني إسرائيل، وصعد الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوماً وعشرة ليال، فقالوا‏:‏ قد أخلفنا موعده، انتهى كلامه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لما دخل بنو إسرائيل مصر، بعد هلاك فرعون، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله أن ينزل عليهم التوراة، وضرب له ميقاتاً، انتهى‏.‏

‏{‏ثم اتخذتم العجل‏}‏‏:‏ الجمهور على إدغام الذال في التاء‏.‏ وقرأ ابن كثير وحفص من السبعة‏:‏ بالإظهار، ويحتمل اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد، أي صنعتم عجلاً، كما قال‏:‏ ‏{‏واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار‏}‏ على أحد التأويلين، وعلى هذا التقدير‏:‏ يكون ثم جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وتقديرها‏:‏ وعبدتموه إلهاً، ويحتمل أن تكون مما تعدّت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني محذوفاً لدلالة المعنى، التقدير‏:‏ ثم اتخذتم العجل إلهاً، والأرجح القول الأوّل، إذ لو كان مما يتعدّى في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني، ولو في موضع واحد، ألا ترى أنه لم يعد إلى اثنين بل إلى واحد في هذا الموضع، وفي‏:‏ ‏{‏واتخذ قوم موسى‏}‏، وفي‏:‏

‏{‏اتخذوه وكانوا ظالمين‏}‏، وفي‏:‏ ‏{‏إن الذين اتخذوا العجل‏}‏ وفي قوله في هذه السورة أيضاً‏:‏ ‏{‏إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل‏}‏ لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القول الأوّل حذف جملة من هذه الآيات، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول، وحذف المفرد أسهل من حذف الجملة‏.‏ فعلى القول الأوّل فيه ذمّ الجماعة بفعل الواحد، لأن الذي عمل العجل هو السامري، وسيأتي، إن شاء الله، الكلام فيه وفي اسمه وحكاية إضلاله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأضَلهم السامري‏}‏ وذلك عادة العرب في كلامها تذم وتمدح القبيلة بما صدر عن بعضها‏.‏ وعلى القول الثاني فيه ذمهم بما صدر منهم، والألف واللام في العجل على القول الأول لتعريف الماهية، إذ لم يتقدّم عهد فيه، وعلى القول الثاني للعهد السابق، إذ كانوا قد صنعوا عجلاً ثم اتخذوا ذلك العجل إلهاً، وكونه عجلاً ظاهر في أنه صار لحماً ودماً، فيكون عجلاً حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه حقيقة، قاله الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ هو مجاز، أي عجلاً في الصورة والشكل، لأن السامري صاغه على شكل العجل، وكان فيما ذكروا صائغاً، ويكون نسبة الخوار إليه مجازاً، قاله الجمهور، وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف، إن شاء الله‏.‏ ومن أغرب ما ذهب إليه في هذا العجل أنه سمي عجلاً لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى، فاتخذوه إلهاً، قاله أبو العالية، أو سمى هذا عجلاً، لقصر مدّته‏.‏

‏{‏من بعده‏}‏، من‏:‏ تفيد ابتداء الغاية، ويتعارض مدلولها مع مدلول ثم، لأن ثم تقتضي وقوع الاتخاذ بعد مهلة من المواعدة، ومن تقتضي ابتداء الغاية في التعدية التي تلي المواعدة، إذا الظاهر عود الضمير على موسى، ولا تتصوّر التعدية في الذات، فلا بد من حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا، أي من بعد مواعدته، فلا بد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين، إلا أن قدر محذوف غير المواعدة، وهو أن يكون التقدير من بعد ذهابه إلى الطور، فيزول التعارض، إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ‏.‏ ويبين المهلة قصة الأعراف، إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل كثيرة، وابتداء الغاية يكون عقيب الذهاب إلى الطور، فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد، فزال التعارض‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في بعده يعود على الذهاب، أي من بعد الذهاب، ودل على ذلك أن المواعدة تقتضي الذهاب، فيكون عائداً على غير مذكور، بل على ما يفهم من سياق الكلام، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى توارت بالحجاب‏}‏ ‏{‏فأثرن به نقعاً‏}‏ أي توارت الشمس، إذ يدل عليها قوله‏:‏ بالعشي، وأي فأثرن بالمكان، إذ يدل عليه ‏{‏والعاديات‏}‏ ‏{‏فالموريات‏}‏ ‏{‏فالمغيرات‏}‏ إذ هذه الأفعال لا تكون إلا في مكان فاقتضته ودلت عليه‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير يعود على الانجاء، أي من بعد الانجاء، وقيل‏:‏ على الهدى، أي من بعد الهدى، وكلا هذين القولين ضعيف‏.‏

‏{‏وأنتم ظالمون‏}‏‏:‏ جملة حالية، ومتعلق الظلم‏.‏ قيل‏:‏ ظالمون بوضع العبادة في غير موضعها، وقيل‏:‏ بتعاطي أسباب هلاكها، وقيل‏:‏ برضاكم فعل السامري في اتخاذه العجل، ولم تنكروا عليه‏.‏ ويحتمل أن تكون الجملة غير حال، بل إخبار من الله إنهم ظالمون‏:‏ أي سجيتهم الظلم، وهو وضع الأشياء في غير محلها‏.‏ وكان المعنى‏:‏ ثم اتخذتم العجل من بعده وكنتم ظالمين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوه وكانوا ظالمين‏}‏‏.‏ وأبرز هذه الجملة في صورة ابتداء وخبر، لأنها أبلغ وآكد من الجملة الفعلية ولموافقة الفواصل‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ ثم اتخذتم العموم، وأنهم كلهم عبدوا العجل إلا هارون، وقيل‏:‏ الذين عكفوا على عبادته من قوم موسى ثمانية آلاف رجل، وقيل‏:‏ كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفاً، قيل‏:‏ وهذا هو الصحيح، وقيل‏:‏ إلا هارون والسبعين رجلاً الذين كانوا مع موسى‏.‏ واتخاذ السامري العجل دون سائر الحيوانات، قيل‏:‏ لأنهم مرّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم وكانت على صور البقر، فقالوا‏:‏ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فهجس في نفس السامري أن يفتنهم من هذه الجهة، فاتخذ لهم العجل، وقيل‏:‏ إنه كان من قوم يعبدون البقر، وكان منافقاً يظهر الإيمان بموسى، فاتخذ عجلاً من جنس ما كان يعبده، وفي اتخاذهم العجل إلهاً دليل على أنهم كانوا مجسمة أو حلولية، إذ من اعتقد تنزيه الله عن ذلك واستحالة ذلك عليه بالضرورة، تبين له بأوّل وهلة فساد دعوى أن العجل إله‏.‏ وقد نقل المفسرون عن ابن عباس والسدّي وغيرهما قصصاً كثيراً مختلفاً في سبب اتخاذ العجل، وكيفية اتخاذه، وانجر مع ذلك أخبار كثيرة، الله أعلم بصحتها، إذ لم يشهد بصحتها كتاب ولا حديث صحيح، فتركنا نقل ذلك على عادتنا في هذا الكتاب‏.‏

‏{‏ثم عفونا عنكم‏}‏‏:‏ تقدّمت معاني عفا، ويحتمل أن يكون عفا عنه من باب المحو والإذهاب، أو من باب الترك، أو من باب السهولة، والعفو والصفح متقاربان في المعنى‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب، فإن كان العفو هنا بمعنى الترك أو التسهيل، فيكون عنكم عام اللفظ خاص المعنى، لأن العفو إنما كان عمن بقي منهم، وإن كان بمعنى المحو، كان عاماً لفظاً ومعنى، فإنه تعالى تاب على من قتل، وعلى من بقي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم‏}‏ وروي أن الله أوحى إلى موسى بعد قتلهم أنفسهم أني قبلت توبتهم فمن قتل فهو شهيد، ومن لم يقتل فقد تبت عليه وغفرت له‏.‏ وقالت المعتزلة‏:‏ عفونا عنكم، أي بسبب إتيانكم بالتوبة، وهي قتل بعضهم بعضاً‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ إشارة إلى اتخاذ العجل، وقيل‏:‏ إلى قتلهم أنفسهم، والأوّل أظهر‏.‏

‏{‏لعلكم‏}‏‏:‏ تقدّم الكلام في لعل في قوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏، لغة ودلالة معنى بالنسبة إلى الله تعالى، فأغنى عن إعادته‏.‏ ‏{‏تشكرون‏}‏‏:‏ أي تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم، وتظهرن النعمة بالثناء، وقالوا‏:‏ الشكر باللسان، وهو الحديث بنعمة المنعم، والثناء عليه بذلك وبالقلب، وهو اعتقاد حق المنعم على المنعَم عليه، وبالعمل ‏{‏اعملوا آل داود شكراً‏}‏ وبالله أي شكراً لله بالله لأنه لا يشكره حق شكره إلا هو، وقال بعضهم‏:‏

وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة *** وبالقلب أخرى ثم بالعمل الأسنى

وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي *** ولا بلساني بل به شكره عنا

ومعنى لعلكم تشكرون‏:‏ أي عفو الله عنكم، لأن العفو يقتضي الشكر، قاله الجمهور، أو تظهرون نعمة الله عليكم في العفو، أو تعترفون بنعمتي، أو تديمون طاعتي، أو تقرون بعجزكم عن شكري أربعة أقوال‏:‏ وقال ابن عباس‏:‏ الشكر طاعة الجوارح‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ الشكر هو العجز عن الشكر‏.‏ وقال الشبلي‏:‏ التواضع تحت رؤية المنة‏.‏ وقال الفضيل‏:‏ أن لا تعصي الله‏.‏ وقال أبو بكر الورّاق أن تعرف النعمة من الله‏.‏ وقال ذو النون‏:‏ الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان‏.‏ قال القشيري‏:‏ سرعة العفو عن عظيم الجرم دالة على حقارة المعفو عنه، يشهد لذلك ‏{‏من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏، وهؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم عفونا عنكم من بعد ذلك‏}‏، وقال لهذه الأمة‏:‏ ‏{‏ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره‏}‏ انتهى كلامه‏.‏ وناسب ترجي الشكر إثر ذكر العفو، لأن العفو عن مثل هذه الزلة العظيمة التي هي اتخاذ العجل إلهاً هو من أعظم، أو أعظم إسداء النعم، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏‏.‏

‏{‏وإذ آتينا موسى الكتاب‏}‏‏:‏ هو التوراة بإجماع المفسرين‏.‏ ‏{‏والفرقان‏}‏‏:‏ هو التوراة، ومعناه أنه آتاه جامعاً بين كونه كتاباً وفرقاناً بين الحق والباطل، ويكون من عطف الصفات، لأن الكتاب في الحقيقة معناه‏:‏ المكتوب، قاله الزجاج، واختاره الزمخشري، وبدأ بذكره ابن عطية قال‏:‏ كرر المعنى لاختلاف اللفظ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل، ولفظة كتاب لا تعطي ذلك، أو الواو مقحمة، أي زائدة، وهو نعت للكتاب، قال الشاعر‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم

قاله الكسائي، وهو ضعيف، وإنما قوله، وابن الهمام، وليث‏:‏ من باب عطف الصفات بعضها على بعض‏.‏ ولذلك شرط، وهو أن تكون الصفات مختلفة المعاني، أو النصر، لأنه فرق بين العدوّ والولي في الغرق والنجاة، ومنه قيل ليوم بدر‏:‏ يوم الفرقان، قاله ابن عباس، أو سائر الآيات التي أوتي موسى على نبينا وعليه السلام من العصا واليد وغير ذلك، لأنها فرقت بين الحق والباطل، أو الفرق بين الحق والباطل، قاله أبو العالية ومجاهد، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو البرهان الفارق بين الكفر والإيمان، قاله ابن بحر وابن زيد، أو الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط، ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏يجعل لكم فرقاً‏}‏ أي فرجاً ومخرجاً‏.‏ وهذا القول راجع لمعنى النصر أو القرآن‏.‏ والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم حتى آمن به، حكاه ابن الأنباري، أو القرآن على حذف مفعول، التقدير‏:‏ ومحمداً الفرقان، وحكي هذا عن الفراء وقطرب وثعلب، وقالوا‏:‏ هو كقول الشاعر‏:‏

وزججن الحواجب والعيونا *** التقدير‏:‏ وكحلن العيون‏.‏ ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة، لأنه لا دليل على هذا المحذوف، ويصير نظير‏:‏ أطعمت زيداً خبزاً ولحماً، ويكون‏:‏ اللحم أطعمته غير زيد، ولأن الأصل في العطف أنه يشارك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم السابق، إذا كان العطف بالحروف المشتركة في ذلك، وليس مثل ما مثلوا به من‏:‏ وزججن الحواجب والعيون، لما هو مذكور في النحو‏.‏ وقد جاء‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء‏}‏ وذكروا جميع الآيات التي آتاها الله تعالى موسى لأنها فرقت بين الحق والباطل، أو انفراق البحر، قاله يمان وقطرب، وضعف هذا القول بسبق ذكر فرق البحر في قوله‏:‏ ‏{‏إذ فرقنا‏}‏، وبذكر ترجية الهداية عقيب الفرقان، ولا يليق إلا بالكتاب‏.‏ وأجيب بأنه، وإن سبق ذكر الانفلاق، فأعيد هنا ونص عليه بأنه آية لموسى مختصة به، وناسب ذكر الهداية بعد فرق البحر لأنه من الدلائل التي يستدل بها على وجود الصانع وصدق موسى على نبينا وعليه السلام، وذلك هو الهداية، أو لأن المراد بالهداية النجاة والفوز، وبفرق البحر حصل لهم ذلك فيكون قد ذكر لهم نعمة الكتاب الذي هو أصل الديانات لهم، ونعمة النجاة من أعدائهم‏.‏ فهذه اثنتا عشرة مقالة للمفسرين في المراد بالفرقان هنا‏.‏‏.‏

‏{‏لعلكم تهتدون‏}‏‏:‏ ترجية لهدايتهم، وقد تقدم الكلام في لعل‏.‏ وفي لفظ ابن عطية في لعل هنا، وفي قوله قيل‏:‏ ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏، أنه توقع، والذي تقرر في النحو أنه إن كان متعلق لعل محبوباً، كانت للترجي، فإن كان محذوراً، كانت للتوقع، كقولك‏:‏ لعل العدو يقدم‏.‏ والشكر والهداية من المحبوبات، فينبغي أن لا يعبر عن معنى لعل هنا إلا بالترجي‏.‏ قال القشيري‏:‏ فرقان هذه الأمة الذي اختصوا به نور في قلوبهم، يفرقون به بين الحق والباطل‏:‏ استفت قلبك، اتقوا فراسة المؤمن‏.‏ المؤمن ينظر بنور الله ‏{‏إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاً‏}‏، وذلك الفرقان ما قدموه من الإحسان، انتهى كلامه‏.‏ وناسب ترجي الهداية إثر ذكر إتيان موسى الكتاب والفرقان، لأن الكتاب به تحصل الهداية ‏{‏إنا أنزلنا التوارة فيها هدى ونور‏}‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى‏}‏ ‏{‏وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور‏}‏ وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر الامتنان على بني إسرائيل فصولاً منها‏:‏ فرق البحر بهم على الوجه الذي ذكر من كونه صار اثني عشر مسلكاً على عدد الأسباط وبين كل سبط حاجز يمنعهم من الازدحام دون أن يلحقهم في ذلك استيحاش، لأنه صار في كل حاجز كوى بحيث ينظر بعضهم إلى بعض على ما نقل، وهو من أعظم الآيات الدالة على صدق موسى على نبينا وعليه السلام، وهذا الفرق هو النعمة الثالثة، لأن الأولى هي التفضيل، والثانية هي الإنجاء من آل فرعون، والثالثة هي هذا الفرق وما ترتب عليه من إنجائهم من الغرق وإغراق أعدائهم وهم ينظرون بحيث لا يشكون في هلاكهم‏.‏

ثم استطرد بعد ذلك إلى ذكر النعمة الرابعة، وهي العفو عن الذنب العظيم الذي ارتكبوه من عبادة العجل، فذكر سبب ذلك، وأنه اتفق ذلك لغيبة موسى عنهم لمناجاة ربه، وأنهم على قصر مدة غيبته انخدعوا بما فعله السامري هذا، ولم يطل عليهم الأمد، وخليفة موسى فيهم أخوه هارون ينهاهم فلا ينتهون، ومع هذه الزلة العظيمة عفا عنهم وتاب عليهم، فأي نعمة أعظم من هذه‏؟‏ ثم ذكر النعمة الخامسة، وهي ثمرة الوعد، وهو إتيان موسى التوراة التي بها هدايتهم، وفيها مصالح دنياهم وآخرتهم‏.‏ وجاء ترتيب هذه النعم متناسقاً يأخذ بعضه بعنق بعض، وهو ترتيب زماني، وهو أحد الترتيبات الخمس التي مر ذكرها في هذا الكتاب، لأن التفضيل أمر حكمي، فهو أول ثم وقعت النعم بعده، وهي أفعال يتلو بعضها بعضاً‏.‏ فأولها الإنجاء من سوء العذاب، ذبح الأبناء واستحياء النساء بإخراج موسى إياهم من مصر، بحيث لم يكن لفرعون ولا لقومه عليهم تسليط بعد هذا الخروج، والإنجاء، ثم فرق البحر بهم وإرائهم عياناً هذا الخارق العظيم، ثم وعد الله لموسى بمناجاته وذهابه إلى ذلك، ثم اتخاذهم العجل، ثم العفو عنهم، ثم إيتاء موسى التوراة‏.‏ فانظر إلى حسن هذه الفصول التي انتظمت انتظام الدرّ في أسلاكها، والزهر في أفلاكها، كل فصل منها قد ختم بمناسبة، وارتقى في ذروة الفصاحة إلى أعلى مناصبه، وارداً من الله على لسان محمد أمينه لسان من لم يتل من قبل كتاباً ولا خطه بيمينه‏.‏